مخيم جنين ليس مجرد مكان فحسب، إنما هو فكرة تستعصي على التلاشي كونها تحمل الحقيقة التي يرغب الكيان الصهيوني في محوها من الوعي والذاكرة والتاريخ، وإذا كانت غزة مركز الحدث فإن جنين هي الامتداد، وكلاهما حالة متفردة لتجسيد المقاومة، وما الحرب، أو المقتلة التي طالت البشر والشجر والحجر، سوى محاولة كامنة في وعي المحتل لمحاولة محو، أو مسح المكان، ظناً منه أن ذلك سينهي السردية، غير أن غزة بتكوينها، وتعدد مستويات خطابها المقاوم يجعل منها حكاية أخرى، أو ربما هي عنوان القصيدة، هي المباشرة، أو الوضوح الدال، بينما جنين هي القصيدة التي تحتاج إلى تأويل، أقرب إلى رمز لا يمكن أن ينتهي، وعلى الرغم من ذلك، فإن كل فلسطين تتعرض إلى محاولة محو يعتمد التصور الكولونيالي، الذي ينهض تدمير الفضاء العمراني بوصفه دالاً.
مخيم جنين ليس الشوارع، والبيوت، والمساجد، والأزقة… مخيم جنين يتجاوز كل ذلك، فهذا المخيم الذي أنشئ سنة 1953 في غرب مدينة جنين، يبدو أعقد من مكان، هو التاريخ الذي تجذر في وعي المحتل بوصفه المعضلة، أو الكابوس الذي أمسى هاجساً. فلا – عجب إذن- أن يجعل المخرج الفلسطيني محمد بكري من مخيم جنين فضاء لفيلمين أزعجا الكيان، الأول كان نتاج الانتفاضة الثانية بعنوان «جنين.. جنين» 2002، والثاني «جنين 2023» وكلا الفيلمين يتمثلان سردية المخيم من ناحية التعالق البنيوي والنفسي بين الإنسان والمكان، أو كيف يشكلان بعضهما بعضاً.
إن الوعي الكولونيالي ينتج عن قراءة جغرافية المكان ورمزيته، إذ ينطلق من وعي أبستمولوجي ينهض على عملية إسكات المكان وتطويعه، كما تحويله، ومن ثم مصادرة هويته بغية السيطرة، أو الهيمنة عليه بوصفه مركز الفكرة، أو أن (المكان) مصدر الفعل، غير أن وعيه يقصر عن فهم أن المكان يتشكل من أرواح سكانيه، وما الجغرافيا سوى فضاء للرسالة، لا الرسالة عينها، وإذا كان يعتقد الكيان أن هدم البيوت، وحفر الشوارع، وتجريف البنية التحتية سيقضي على وعي المكان، ورمزيته فإن هذا ينتج عن قصور في فهم الذات المنتجة للمكان، فأهل مخيم جنين، كما باقي المخيمات الفلسطينية، كما أهل غزة، وعموم فلسطين.. هم، وإن ارتحلوا عن المكان قسراً، غير أن المخيم أو المكان قائم في وعيهم العميق، سرعان ما سيعيدون بناء مخيم جنين آخر.. لا بوصفه مكاناً إنما بوصفه فكرة، وأيديولوجية، ولكن الأهم أنه قصة مستمرة السرد لن تتوقف بتغيير المكان؛ لأن القصة والمقاومة ستولد في مكان آخر، قد يكون قريباً، وقد يكون ما وراء البحار، غير أن نهاية السردية لن تتبخر كما يعتقد المحتل بزوال المكان، أو أنها ستغرق في البحر، فنهاية السردية تتلخص بالاتحاد بين المكان الفلسطيني والإنسان الفلسطيني.
تبدأ قصة الجغرافيا الكولونيالية من القرن الثامن عشر، غير أن وعيها المعرفي تشكل بعمق على يد إدوارد سعيد، حين أدرك أن خطابات الهيمنة تسعى إلى اكتناه الجغرافيا معرفياً، عبر استراتيجيات تعيين الاسم، ورسم الخرائط، وتصنيف الأمكنة، ودراسة مجتمعاته، ظناً أن ذلك سيتيح إعادة تموضع المكان كي يكون هامشاً أو تابعاً للمركز، وبذلك تمسي الممارسة الكولونيالية المعرفية أقرب إلى خطابات إعادة التشكيل، ومن هنا يمكن تفهم الهوس الصهيوني بتجريف المكان، واقتلاع الأشجار، وأعمدة الكهرباء، وتحطيم السيارات، وهدم البيوت بوصفها محاولة لإفقار المكان، ونزع قيمته المادية في عيون سكانه، عبر تحويله إلى مجرد ركام، أو تجريده من الوعي بالتدمير، غير أن ذلك ينهض على نقص معرفي في الذات الفلسطينية، التي تدرك أن المكان ليس أداة وظيفية للحياة، إنما المعنى الكامن للوجود لقيمته الإنسانية والرمزية لا المادية؛ ولهذا تنتقل الفكرة والمقاومة إلى مكان آخر، أو حيز، لا يهم، غير أن الأهم المعنى، وبذلك فإن خطاب الفلسطيني ينهض على إعادة إنتاج فكرة المخيم: جنين آخر، وغزة أخرى، ومخيم بلاطة، وكل المدن والمخيمات الفلسطينية.. وعلى الرغم من محاولات الكيان المتكررة، التي امتدت لعقود، غير أنها لم تتجاوز تدمير البنية المادية، فهي كانت تسيطر فقط على المخيم أو المكان فحسب.
إن محاولة الكيان كتابة المكان بلغته الخاصة التي قوامها الآليات والجرافات والدبابات وسيارات الجيب العسكرية لن تعني سوى ضآلة الأدوات في مواجهة الذاكرة، من منطلق أن الذاكرة لغوية رمزية، وتكمن مشكلة المحتل في عدم إدراكه أن كل محاولة للكتابة فوق الذاكرة الفلسطينية سوف تعيد إنتاج ذاكرة جديدة، وعلى الرغم من أن فلسطين قد تبتعد قليلاً، أو تصمت بعض الأحيان، أو تتراجع إلى الخلف، غير أنها تعود دائماً أكثر صخباً، وأقوى مما كانت عليه من قبل، وبهذا فلن تنجح ممارسات الجغرافيا الكولونيالية التي تنهض على مقولة الأرض البكر، أو لم التي يشغلها أحد، وهنا تكمن المشكلة، أو بمعنى آخر محاولة إنتاج هذه الفكرة في وعي المحتل، أو محاولة إقناع العقل الباطني، مع أنه يعلم أنها ليست كذلك، ورغم هذا يسعى إلى تحقيق رؤيته عبر القوة المادية، ولعمري، إنّ هذا ليحاكي مصير سيزيف، ذاك الذي ما إن يُوشك أن يبلغ القمّة، حتى ترتدّ الصخرة إلى القاع، ليجد نفسه مضطراً إلى البدء من جديد، كأنّ اللعنة قد سكنت هذا الفعل.
إن مخيم جنين لا يتعلق بمساحة محدودة من الكيلومترات، أو تلك الصور التي تنقلها وسائل الإعلان، إنما هو رؤية، أو كيف نرى مخيم جنين، فالمخيم حاضر في كل مكان، يحضر في كل مدن فلسطين، ويحضر في كل عواصم العالم، وفي أي مكان يوجد فيه فلسطيني واحد، كما تحضر غزة الآن، لقد امتدت فلسطين، وباتت تسع العالم، وربما تتجاوزه، فبعض المدن تتحول إلى رموز، وبعض المدن الأخرى ستختفي على اتساعها، لأن ما يصنع المدن الإنسان، فمخيم جنين، وغزة، وكل المدن الفلسطينية عرفت وجوه الغزاة، وقد مروا من هنا.. كما مرّ البرابرة قياساً على رواية الجنوب افريقي جي. أم. كوتيزي بعنوان «في انتظار البرابرة».
ولعل كلمة البرابرة تبدو أكثر الكلمات اختزالاً لما يقوم به المحتل، فإذا كانت كلمة برابرة تحمل معنى الإقصائية في أصلها اليوناني؛ بمعنى كل آخر لا يتحدث اليونانية، فإن المفارقة تتحقق حين يجمع الكيان الصهيوني المعنين: فهم الآخر الذي لا يتحدث الفلسطينية، والمعنى المعاصر يعني القوم الذين يحدثون الخراب والتدمير، أو يتسمون بالعنف، كما أنهم يفتقرون للعقلانية، والصفة الأخيرة تتأتى كونهم يدعون الحضارة شكلاً، غير أن في أعماقهم بربرية أخرى تجمع بين عدم الإدراك لجغرافية الأرض، مع نزعة دموية للقتل، والتخريب.
وفي الختام، سوف يبقى مخيم جنين، وتبقى غزة، وتبقى مدن فلسطين جميلات على الدوام، رغم أنف الهدم والتدمير، ويبقى بيت محمد مهدي الجواهري – ربما البيت الأجمل- للتعبير عن جمال مدن فلسطين حين قال:
«فلسطين» ونعمَ الأمُ، هذي بَناتُكِ كلُها خوْدٌ كعاب
كاتب أردني فلسطيني
المصدر: صحيفة القدس العربي